أطفالنا في ظل التربية الإسلامية
المقدمة :
الحمد لله على توفيقه وهداه ، والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه ، وعلى أهل بيته أهل الطهارة والشرف والفضل والجاه .
نقدّم لك ـ عزيزنا القارئ الكريم ـ بحثنا التربوي هذا ، معالجين فيه مسألة التربية الإسلامية التي وضع أسسها لنا الشارع المقدّس تبارك وتعالى ، كما ورد في قرآنه الكريم ، وعلى لسان نبيّه الصادق الأمين محمّد بن عبد الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، ومن خلال سيرته الشريفة ، وسيرة أهل بيته الطيّبين الطاهرين ، وعترته من ذرّيته المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
نهدف من وراء ذلك أن نحظى بتوفيق من الله عزّ وجلّ في أن نسهم في هذه المسؤولية التربوية المقدّسة .
قال الله الحكيم في محكم كتابه الكريم : بسم الله الرحمن الرحيم : ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) صدق الله العلي العظيم .
وقال رسوله المصطفى ( صلّى الله عليه وآله ) لمّا سئل : ما حقّ ابني هذا ؟ ( تُحسن اسمه وأدبه ، وضعْه موضعاً حسناً ) .
وقال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ( وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ، ما ألقي فيها من شيء قبلته ) .
وقال الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) : ( الغلام يلعب سبع سنين ، ويتعلّم الكتاب سبع سنين ، ويتعلّم الحلال والحرام سبع سنين ) .
وقد قيل :
ربّوا بنيكم علّموهم هذّبوا ** فتياتكم فالعلمُ خيرُ قوام
وقيل كذلك :
ليس الجَمالُ بأثوابٍ تزيّنهُ ** إنّ الجَمالَ جَمالُ الخُلقِ والأدبِ
بقدر ما هو شيّق ولذيذ ، فهو مهمّ جدّاً وخطير جدّا ً، ذلك هو الخوض في أهم وأخطر مجال من المجالات الاجتماعية في بناء الفرد والمجتمع البناء السليم القويم ، فإنّ الإنسان يولد صفحة ناصعة البياض ، مصقولة التركيب ، محايدة التشكيلة ، لا تشوبه شائبة ، فهو بهذا يكون قابلاً للتشكّل والانتماء واكتساب ألوان المعارف والسلوك والممارسات .
وإنّ مرحلة الطفولة هي التي تعطي صورة شخصية الإنسان ، وتشكيل ملامحه الخَلقية والخُلقية ، وقد حرصت الشريعة الإسلامية الحقّة على تربية الطفل ، واهتمّت ببناء شخصيّته بناء سليماً ؛ محصّنة إيّاه عن أشكال الانحراف وأنواع العقد السلوكية ، وشتّى الأمراض النفسية الخطيرة والعادات السيئة القبيحة .
وعلى أساس من مبادئها الإنسانية وقيمها الصالحة ، فإنّ بناء شخصية الطفل في الإسلام ما هو في الحقيقة إلاّ عملية بناء المجتمع الإسلامي ، وتمهيد لإقامة الحياة والدولة والقانون والحضارة ، وفقاً للمبادئ الإسلامية المباركة ، تحقيقاً لسعادة الإنسان ، وتحصيناً لمقوّمات المجتمع ، وحفظاً لسلامة البشرية وخيرها .
وإنّ نجاح الأهداف الإسلامية ، وسعادة الفرد ، وسلامة المجتمع ، تتوقّف على سلامة عملية التربية ؛ ممّا يدعونا لأن نكرّس جانباً كبيراً من جهودنا وممارساتنا واهتماماتنا لتربية الطفل وإعداده إعداداً سليماً ، ليكون فرداً صالحاً وعضواً نافعاً في المجتمع الإسلامي ، وليكون له دور بنّاء وفعّال في الحياة ، ويكون مهيّأً للعيش السليم في كنف الإسلام العظيم ، منسجماً في واقعه ونزعاته الذاتية مع القانون الإسلامي ، ونظم الحياة الإسلامية السائدة في مجتمع الإيمان بالله عزّ وجلّ .
لقد توخّينا من إعداد هذا البحث ووضعه على شبكة الإنترنت ؛ لنكون قد ساهمنا ـ مع من يعيش في البلدان غير الإسلامية خاصّة ـ في تربية أطفالنا التربية التي يرضاها الله عزّ وجلّ ورسوله وخلفاؤه الأئمّة الإثنا عشر المعصومون صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ، ونكون بذلك مساهمين في بناء التربية الإسلامية الصالحة في ذلك المجتمع الذي يعيشون فيه ، البعيد عن التصوّر الإسلامي ، وكذلك في نشر الفكر والوعي الإسلامي في تلك المجتمعات ، من خلال ذلك .
مفهوم التربية :
لقد عرّف اللغويّون وأصحاب المعاجم لفظة التربية بأنّها : الربّ في الأصل : التربية ، وهي إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدّ التمام ، يقال : ربّه وربّاه وربّيه ، وربّ الولد ربّاً : وليه وتعهّده بما يغذّيه وينمّيه ويؤدّبه ... .
لذا ، يمكننا أن نقول : إنّ التربية الإسلامية هي : عملية بناء الإنسان وتوجيهه لتكوين شخصيّته ، طبقاً لمنهج الإسلام الحنيف وأهدافه في الحياة ، فالتربية إذن تعني تنشئة الشخصية وتنميتها حتّى تكتمل وتتّخذ صفتها الممّيزة لها .
أهمّية التربية الإسلامية :
من المسلّم به أنّ الإنسان يولد صفحة بيضاء ، غير مطبوع عليه أيّ شيء من ملامح أيّ اتّجاه أو سلوك أو تشكيلة ؛ إلاّ أنّه يحمل الاستعداد التامّ لتلقّي مختلف العلوم والمعارف ، وتكوين الشخصية والانخراط ضمن خطّ سلوكي معيّن .
لذا ، فإنّ القرآن الكريم يخاطب الإنسان ويذكّره بهذه الحقيقة الثابتة ، وبنعمة الاستعداد والاكتساب والتعلّم ، التي أودعها الله عزّ وجلّ فيه لكسب العلم والمعرفة ، والاسترشاد بالهداية الإلهية .
قال عزّ وجلّ : ( وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) النحل : 78 .
والإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يترجم هذا الخطاب الإلهي العلمي السامي بقوله : ( وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ، ما ألقي فيها من شيء قبلته ) .
وقد شرح العلاّمة الحلّي ( رضوان الله عليه ) مراحل تكوّن المعرفة لدى الطفل ، فقال : ( اعلم أنّ الله خلق النفس الإنسانية في بداية فطرتها ، خالية من جميع العلوم بالضرورة ، قابلة لها بالضرورة ، وذلك مشاهد في حال الأطفال ، ثمّ إنّ الله تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الإدراك ، وهي القوى الحسّاسة ، فيحسّ الطفل في أوّل ولادته لمس ما يدركه من الملموسات ، ويميّز بواسطة الإدراك البصري على سبيل التدرّج بين أبوبه وغيرهما ) .
وبهذا الترتيب يتدرّج في التعرّف إلى الطعوم والمذاقات وباقي المحسوسات وإلى إدراك جميع ما يتعلّق بها ، فهو يعرف ثدي أمّه ، نظراً لعلاقته الحياتية به وحاجته إليه في التغذّي ، فنراه يناغيه ويلاعبه ويداعبه أثناء رضاعته ، ثمّ يتعرّف على أمّه قبل غيرها ممّن يحيطون به ، وهكذا .
ثمّ إنّ هذا الطفل يزداد فطنة وذكاء ، فينتقل من إحساسه بالأمور الجزئية إلى معرفة الأمور الكلّية ، مثل التوافق والتباين والأنداد والأضداد ؛ فيعقل الأمور الكلّية الضرورية بواسطة إدراك المحسوسات الجزئية ، ثمّ إذا استكمل الاستدلال وتفطّن بمواضع الجدال ؛ أدرك بواسطة العلوم الضرورية العلوم الكسبية .
فظهر من هذا أنّ العلوم المكتسبة فرع على العلوم الكلّية الضرورية ، والعلوم الكلّية الضرورية فرع على المحسوسات الجزئية ، لذا يتعيّن في ظلّ التعاليم الإسلامية على الأبوين التكليف في إعداد الطفل وتربيته وتعليمه منذ نشأته الأولى .
ومن الجانب الآخر ، فإنّ الطفل ـ كإنسان ـ وهبه الله عزّ وجلّ العقل والذكاء ، وخلق فيه ملكة التعلّم والاكتساب والتلقّي ، فهو منذ أن يفتح عينيه على هذه الدنيا يبدأ عن طريق الحسّ بالتعلّم واكتساب السلوك والآداب والأخلاق ، ومختلف العادات ، وكيفية التعامل مع الآخرين .
فنجد أنّ محيط الأسرة وطريقة تعاملها وطرز تفكيرها ، كلّ ذلك يؤثّر تأثيراً مباشراً وعميقاً في تكوين شخصية الطفل ، ويتحدّد قالبها الذي سوف يتّخذه الطفل مستقبلاً ، سواء كانت تلك العائلة سليمة ومؤمنة ومستقيمة وملتزمة بتعاليم الإسلام السامية ، فيخرج الطفل فرداً صالحاً وإنساناً طيّباً وسعيداً ، أو كانت من العوائل المتحلّلة المنحطّة ، فتُخرج طفلها إلى المجتمع فرداً فاسداً مجرماً شقيّاً .
لذا جاء في الحديث النبوي الشريف : ( ما من مولود يولد إلاّ على هذه الفطرة ، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ) .
وقد أثبتت التجارب والدراسات العلمية التي أجراها الباحثون والمحقّقون في مجال البحوث والتحقيقات التربوية والنفسية ؛ أنّ للتربية أثراً كبيراً ومباشراً في تكوين شخصية الفرد ، وأثرها كذلك في المجتمع .
وقد تبيّن تطابق هذه البحوث والتحقيقات مع قواعد الرسالة الإسلامية المباركة وقوانينها التربوية العلمية ، وجاءت هذه تأييداً ومصداقاً للتعاليم الإسلامية الحقّة في مجال التربية والتعليم ؛ حيث تقول معظم الدراسات التي أجريت في العالمين الإسلامي والأوربي بأنّ الطفل في سنيّ عمره الأولى تتحدّد شخصيّته الإنسانية ، وتُنمّى مواهبه الفردية ، وتتكوّن لديه ردود فعل على الظواهر الخارجية ، عن طريق احتكاكه بالمحيط الذي يعيش ويترعرع فيه ، وتكتمل هذه الردود وتأخذ قالبها الثابت في حينه : ( من شبّ على شيء شاب عليه ) .
ومسلّم أنّ للقيم السلوكية السائدة في محيط العائلة الذي يعيش الطفل فيه ـ سواء كانت إيجابية أم سلبية ـ دوراً خطيراً ومؤثّراً في تأطير طريقة تعامله مع الآخرين .
وقد أثبتت الأبحاث التربوية كذلك أنّ تكوّن شخصية الطفل منذ صغر سنّه يؤثّر تأثيراً مباشراً قوياً في نظرته إلى نفسه بالذات ، ما عاش في هذه الحياة الدنيا ، فإنّ لمس الرعاية والمحبّة والعاطفة السليمة والحنان والاهتمام والتقدير والتشجيع والمكافأة بين أفراد أسرته ؛ أشرقت صورته في نفسه وتطيّبت ، ونمت قدراته ومواهبه وإبداعاته وابتكاراته ، وأصبح يشعر بإشراقة مضيئة تشعّ من ذات شخصيّته فتؤهّله للقيام بدور فعّال في حياته العائلية ، ومن ثمّ المدرسية والمهنية فالاجتماعية .
لقد أثبتت هذه الدراسات والتجارب أنّ 50 % من ذكاء الأولاد البالغين السابعة عشرة من العمر ؛ يتكوّن بين فترة الجنين وسنّه الرابعة ، وأنّ 50 % من المكتساب العلمية لدى البالغين من العمر ثمانية عشر عاماً تتكوّن ابتداءً من سنّ التاسعة ، وأنّ 33 % من استعدادات الولد الذهنية والسلوكية والإقدامية والعاطفية يمكن معرفتها في السن الثانية من عمره ، وتتوضّح أكثر في السنّ الخامسة بنسبة50 % .
ودراسة أخرى تضيف على هذا ، فتقول : إنّ نوعية اللغة التي يخاطب الأهل أولادهم بها تؤثّر إلى حدّ كبير في فهم هؤلاء وتمييزهم لمعاني الثواب والعقاب ، وللقيم السلوكية لديهم ولمفاهيمها ، ودورهم في البيت والمجتمع وأخلاقيّتهم .
لذا ، فإنّ الإسلام العظيم قد بدأ عنايته الفائقة بالطفل منذ لحظات ولادته الأولى ، فدعا إلى تلقينه الشهادتين المقدّستين ،وتعظيم الله عزّ وجلّ ، والصلاة لذكره جلّ وعلا ؛ لكي تبدأ شخصيّته بالتشكّل والتكوّن الإيماني ، والاستقامة السلوكية ، والتعامل الصحيح ، ولكي تتثبّت القاعدة الفكرية الصحيحة في عقله ونفسه .
فقد روي عن الإمام جعفر الصادق عن جدّه الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) أنّه قال : ( من وُلد له مولود فليؤذّن في أذنه اليمنى بأذان الصلاة ، وليُقم في أذنه اليسرى ؛ فإنّ إقامتها عصمة من الشيطان الرجيم ) .
ولعلّ أحقّ وأثبت دليل على تحديد مسؤولية الوالدين في مسألة تربية أولادهم ، وأهمّية التربية في الإسلام هو قوله عزّ وجلّ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) التحريم : 6 .
إنّ علماء النفس والتربية يرون أنّ المحيط الذي يعيش الطفل فيه هو الذي يحدّد معالم شخصيّته مستقبلاً بدءً بالوالدين ؛ فمحيط العائلة فالمجتمع الكبير ، فهذا كونفوشيوس فيلسوف الصين الكبير ( 551 ق م ـ 478 ق م ) يقول في شأن أهمّية التربية وضرورتها من أجل حياة معتدلة سوية : الطبيعة هي ما منحتنا إيّاه الآلهة ، السير بمقتضى شروط الطبيعة هو السير في صراط الواجب ، وإدارة هذا الصراط وتنظيمه هو القصد من التربية والتعليم .
تأثير المحيط على تربية الأطفال :
إنّ البيئة والمحيط الذي يعيش فيهما الطفل لهما تأثير عميق وفعّال في حياته وتكوّن شخصيّته ، فالإنسان منذ نعومة أظفاره يتأثّر وينفعل بما يجري حوله من ممارسات ، فهو يكتسب مزاجه وأخلاقه وممارساته وطرز تفكيره من ذلك المحيط أو تلك البيئة .
وقد تبيّن أنّ للوالدين ولسلوك العائلة ووضعية الطفل فيها ، دوراً كبيراً في تحديد شخصيّته وصقلها وبلورتها وتحديد معالمها ، كما أنّ للمعلّم أيضاً وكذا الأصدقاء ، والمجتمع ووسائله الفكرية والإعلامية ، وعاداته وأسلوب حياته ؛ أثر مباشر كبير على سلوك الطفل وكيفية تفكيره ، إلاّ أنّنا نلاحظ ـ انطلاقاً من فلسفة الإسلام العامّة ، والتربوية خاصّة ـ أنْ ليس لعالم الطفل الخارجي بمختلف مصادره ، ومع شدّة تأثيره ؛ القدرة كلّياً وبصورة قاطعة وإلى الأبد في تحديد معالم شخصية الإنسان ، ويؤطّر مواقفه ، بل للإرادة الذاتية القوية دور فعّال وبنّاء في تحديد سلوكه ومعتقده وممارساته ؛ لأنّ الإنسان في ظلّ التعاليم الإسلامية الحقّة ، ومعرفته لما فيه الخير والصلاح والسعادة له ولغيره ، يعمل به ، ومعرفته لما فيه الشرّ والفساد والشقاء له ولغيره ، يتجنّبه لو أنّه اعتقد والتزم بتعاليم الشريعة الإسلامية الخالدة ، وعمل بعمل المعروف وانتهى عن فعل المنكر .
من هنا جاء التأكيد في التربية الإسلامية على القيم والأخلاق والمبادئ ، كحقائق مستقلّة متعالية على تأثيرات الواقع ؛ ليسلم هو بذلك ، وليسلم المجتمع الذي يعيش فيه من انحرافاته وآثاره السلبية .
لذا ، صار الاهتمام بتقويم الإرادة لدى الفرد بالغ الأهمّية ؛ لما للإرادة من دور عظيم في حياة الأفراد والمجتمعات والأمم ، فبالإرادة الذاتية المحصّنة من تأثيرات المحيط ، والثابتة على القيم والمبادئ السامية على واقع العالم المحيط بالإنسان ؛ ظهر القادة والمفكّرون والمصلحون الذين دعوا الناس إلى الثورة ضدّ الواقع المنحرف لتغييره .
وهذا التقويم الواقعي السليم لمنطق التأريخ ، الذي يعطي الإنسان قيمته الحقيقية في هذا العالم الرحب ، ويضعه في محلّه المناسب له ؛ هو بعينه تقويم التشريع الإسلامي للإنسان ، وقد جاء صريحاً في القرآن الكريم : ( بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) القيامة : 14 ـ 15 .
والرسول الأكرم ( صلّى الله عليه وآله ) يقول : ( لا تكن إمّعة : تقول أنا مع الناس ، إن أحسنوا أحسنت ، وإن أساءوا أسأت ؛ بل وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس تُحسنوا ، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم ) .
إذاً ، نستنتج ممّا سبق أنّ للمحيط الطبيعي للفرد وللمحيط الاجتماعي العام تأثيراً عميقاً على تكوين شخصية الطفل وتحديد سلوكه :
1ـ المحيط الطبيعي :
وفيه أنّ القاعدة الأساسية في تربية الطفل تتوقّف على أساس من التفهّم والطمأنينة والاهتمام بالطبيعة ، والعمل على إبعاد المخاوف عنه ، وتوجيهه إلى مواطن السرور والأمان والطمأنينة في هذا العالم ؛ لصيانته من ردود الفعل النفسية التي تؤلّمه وتضرّ به ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية جعله يتوجّه نحو الطبيعة ، ويستلهم منها معاني الحبّ والبهجة والجمال والأمن ، ويتشوّق إلى البحث والمعرفة والاكتشاف .
قال عزّ وجلّ : ( أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ ) الأعراف : 185 .
ومن الواضح أنّ الطفل يتأثّر بالمحيط وينفعل به ، فيتساءل كثيراً عمّا يراه ويسمعه في هذا العالم ممّا يثير إعجابه ودهشته ، ويلفت نظره ، فصوت الرعد ووهج البرق ونباح الكلب ودويّ الريح وسعة البحر ووحشة الظلام ، كلّها تثير مخاوفه ، وتبعث في نفسه القلق والاضطراب والخوف ، وتجعله ينظر إليها بحذر وتردّد ، ويعدّها في عداد العدوّ والخطر ، فيتطوّر عنده هذا الشعور ، ويأخذ أشكالاً مختلفة ، وتتطوّر هذه التحوّلات مع نموّ الطفل ، فتترسّب حالات الخوف في اللاشعور ، فتنمو شخصيّته على القلق والتردّد والاضطراب والخوف والجبن .
وكما أنّ لهذه الظواهر الطبيعية وأمثالها هذا الأثر السلبي الخطر في نفسية الطفل ؛ فإنّ منها ما له تأثير كبير أيضاً وإيجابي نافع في نفسه ، فنجده يفرح ويسرّ بمنظر الماء والمطر ، وتمتلئ نفسه سروراً وارتياحاً بمشاهدة الحقول والحدائق الجميلة ، ويأنس بسماع صوت الطيور ، وترتاح نفسه باللعب بالماء والتراب والطين ، فيجب في كلتا الحالتين التعامل معه ، وتدريبه على مواجهة ما يخاف منه ، وكيفية معالجته ، فنطمئنه ونعوّده الثقة في نفسه والاعتماد عليها .
وممّا هو مهمّ جدّاً في دور التربية هو أن نجيب الطفل ـ بكل هدوء وبساطة وارتياح وحبّ ورحابة صدر ـ عن جميع تساؤلاته حول المطر والشمس والقمر والنجوم والبحر والظلام وصوت الرعد و ... ؛ بما يطمئنه ويريح نفسه ؛ فننمّي بذلك فيه روح الإقدام وحبّ الاستطلاع ، وحبّ الطبيعة وما فيها من خلق الله عزّ وجلّ البديع العجيب لينشدّ إليها ، ويعرف موقعه فيها ، ويدرك عظمة خالقه ، ومواطن القدرة والإبداع ، ودوره فيها ؛ فينشأ فرداً سليماً نافعاً ذا إرادة تجنّبه الانحراف وفعل الشرّ ، وذا عزيمة على الإقدام على فعل الخير ، ويتركّز في نفسه مفهوم علمي وعقائدي مهم ، بأنّ الطبيعة بما فيها هي من صنع الله عزّ وجلّ أوّلاً ، ثمّ أنّ الله سخّرها لخدمة الإنسان ، فيتصرّف فيها ويستفيد منها ، ويكيّف طاقاته ويستغلّها بما ينفعه وينفع الناس ، وقد قال جلّ وعلا : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ) البقرة : 29 .
وقال : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) الملك : 15 .
وهذا التسخير الإلهي ما هو إلاّ تمكين للإنسان من تكييف قوى الطبيعة واستثمارها لصالحه ؛ وفق ما تقتضيه المفاهيم الإنسانية التي عالجها من خلال علاقته بالطبيعة ، مثل مفاهيم الحبّ والخير والجمال والأمن والسلام والاحترام ، وغيرها .
2ـ تأثير البيئة الاجتماعية :
إنّ للوسط الاجتماعي الذي يعيش الطفل فيه تأثيراً كبيراً في سلوكيّته وبناء شخصيّته ، فسرعان ما يتطبّع بطابع ذلك الوسط ، ويكتسب صفاته ومقوّماته من عقائد ذلك الوسط وأعرافه وتقاليده وطريقة تفكيره ، وما إلى ذلك ، والبيئة أو الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه الطفل يتمثّل بما يلي : الأسرة ، المجتمع ، المدرسة ، الدولة .
أ ـ الأسرة :
هي المحيط الاجتماعي الأوّل الذي يفتح الطفل فيه عينيه على الحياة ، فينمو ويترعرع في أوساطه ، ويتأثّر بأخلاقه وسلوكيّاته ، ويكتسب من صفاته وعاداته وتقاليده .
فالطفل يرى في أبوبه ـ وخصوصاً والده ـ الكيان الأعظم ، والوجود المقدّس ، والصورة المثالية لكلّ شيء ، ولذا تكون علاقته معه علاقة تقدير وإعجاب وحبّ واحترام من جهة ، ومن جهة أخرى علاقة مهابة وتصاغر ، ولذا فهو يسعى دائماً إلى الاكتساب منه ، وتقمّص شخصيّته ، ومحاكاته وتقليده ، والمحافظة على كسب رضاه .
في حين يرى في الأمّ مصدراً لإرضاء وإشباع نزعاته الوجدانية والنفسية ، من حبّ وعطف وحنان وعناية ورعاية واهتمام ؛ لهذا فإنّ شخصية الأم تؤثّر تأثيراً بالغاً في الطفل ونفسيّته وسلوكه ـ حاضراً ومستقبلاً .
لذا ، فإنّ لأوضاع الأسرة وظروفها الاجتماعية والعقائدية والأخلاقية والسلوكية والاقتصادية وغيرها ؛ طابعها وآثارها الأساسية في تكوين شخصية الطفل ونموّ ذاته ؛ فالطفل يتأثّر بكل ذلك ، وهذا ينعكس على تفكيره وعواطفه ومشاعره واحساساته ووجدانه وسلوكه ، وجميع تصرّفاته .
فعلاقة الوالدين مع بعضهما ، وكيفية تعامل أفراد الأسرة ، من أخوة وأقارب فيما بينهم ، يوحي إلى الطفل بنوعية السلوك الذي يسلكه في الحاضر والمستقبل ، فهو ـ كما قيل ـ أشبه بالببغاء ، يقلّد ما يرى وما يسمع ويحاكيه ، وهو حينما يرى أنّ هذه العلاقة قائمة على الودّ والعطف والحنان والتقدير والاحترام والتعاون ؛ فإنّه يألف هذا السلوك ، ويتأثّر به ، فتكون علاقته بوالديه واخوته وبقيّة أفراد أسرته والآخرين قائمة على هذا المنحى ، وعندما يخرج إلى المجتمع فهو يبقى في تعامله معه على هذا الأساس أيضاً .
أمّا إذا كان يعيش ضمن أسرة متفكّكة منهارة ، تقوم علاقاتها على الشجار والخلاف وعدم الاحترام والتعاون ؛ فإنّه يبني علاقته بالآخرين على هذا الأساس ، وينشأ معانياً من الجفوة والقسوة والانحلال والتفكّك وعدم الانسجام ، ويتكوّن لديه الشعور بالنقص ، وربّما نشأ مريضاً نفسيّاً وانتقاميّاً حقوداً على الجميع .
وكم من هؤلاء ذكرهم لنا التاريخ ، كانوا وبالاً على المجتمعات ، وفي الوقت الحاضر لا يخلو العالم من هذه النماذج الحقودة على الإنسانية ، الخطرة على مجتمعها ، ممّن يندى جبين العفّة والشرف عند الاطّلاع على ماضيهم الدنيء وحاضرهم القبيح .
والإسلام الحنيف يولي أهمّية فائقة للطفل ، ويركّز على تربيته التربية الصالحة المفيدة ، فقد ورد عن النبي الأكرم ( صلّى الله عليه وآله ) : ( أحبّوا الصبيان وارحموهم ) .
وقال ( صلّى الله عليه وآله ) أيضاً ليهودي : ( أمّا لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله لرحمتم الصبيان ) ، فقال اليهودي : إنّي أؤمن بالله ورسوله ، فأسلم .
وقال الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : ( من قبّل ولده كتب الله عزّ وجلّ له حسنة ، ومن فرّحه فرّحه الله يوم القيامة ) .
ب ـ المجتمع :
هو المحيط الثاني الذي يتلّقى الطفل ويحتضنه بعد أبويه وأسرته ، ويغرس فيه ماهيّته ، وينقل إليه عاداته ومفاهيمه وسلوكه ، وفي المجتمع يجتمع كل ما يحمله وينتجه الأفراد المعاصرون من أفكار وعادات وتقاليد وأخلاق وسلوكيّات وتصرّفات ، كما أنّه يعتبر الوارث الطبيعي للأسلاف والأجيال الماضية ، وهو الذي ينقل إلى الجيل الحاضر ما كان عليه آباؤه وأجداده من حالات وأوضاع ؛ لذا فإنّ للبيئة الاجتماعية دوراً كبيراً في قولبة شخصية الطفل وسلوكه .
والفرد المسلم في المجتمع الإسلامي يجد البيئة الصالحة المناسبة لنموّه ونشأته واستقامة شخصيّته ، لتوفّر الأجواء والظروف اللازمة لنموّ الشخصية الإسلامية اجتماعيّاً نموّاً صالحاً سليماً .
فالصديق الذي يرافقه الطفل ويلعب معه يؤثّر فيه ، وينقل إليه الكثير من أنماط السلوك ، ومعاملة الضيوف والأقارب وغيرهم ، والاختلاط بهم تكون لها منافعها وأضرارها ، والمؤسّسات العامّة كالملاعب والنوادي والجمعيّات والمسارح ودور السينما والحدائق والمتنزّهات وسائر الأماكن العامّة ، أو المظاهر العامّة والممارسات كالأعياد والمناسبات المختلفة ، التي يعيشها الطفل ويتعامل معها ، أو يرتادها ، كلّ ذلك يزرع في نفسه مفهوماً خاصّاً ، يوجّهه توجيهاً معيّناً ، وكذا القصص والحكايات الشعبية والأمثال والنكت هي أيضاً تترك آثارها على شخصية الطفل وسلوكه وأخلاقه .
والتربية الإسلامية تعتمد على المحيط الاجتماعي في التوجيه والإعداد ، وتهتمّ بإصلاح الطفل وتوجيهه توجيهاً صحيحاً سليماً ، فمن النافع جدّاً ذكره أنّ هناك أمراً مهمّاً وخطيراً جدّاً في العملية التربوية ، له أثره المهمّ والفعّال في الشخصية الإنسانية ، ألا وهو الانسجام التامّ وعدم التناقض بين حياة البيت والمدرسة والمجتمع ؛ ليسلم الطفل من الصراع النفسي والتشتّت وانقسام الشخصية وانفصامها .
والمجتمع الإسلامي الذي يؤمن بالإسلام فكراً وعملاً وسلوكاً ، ينسجم تماماً مع الأسرة والمدرسة ، ويلقى الطفل فيه الحياة المتّزنة المستقرّة المنسجمة الهادئة المريحة ، كما أنّ الطفل أينما يولّي وجهه في البيت أو المدرسة أو المجتمع ، فإنّه يجد الأمّ والأصدقاء والمؤسّسة والمظهر الاجتماعي العام ، ووسيلة الإعلام وحياة الناس العامّة وسياسة الدولة كلّها تسير على قاعدة فكرية وسلوكية واحدة ، ساعية إلى الخير والإصلاح والعزّة والكرامة ، وتعمل بانسجام تام ، وتتعاون بشكل دقيق ومتقن ومنسّق ، على أسس فلسفة حياتية وفكرية واحدة ، من أجل بناء الفرد الصالح النافع ، والمجتمع السليم القويم ، والدولة القوية المهابة .
ج ـ المدرسة :
والمدرسة هي الحاضنة الأخرى للطفل ، ولها تأثير كبير ومباشر في تكوين شخصيّته ، وصياغة فكره ، وتوضيح معالم سلوكه ، وفي المدرسة تشترك عناصر أربعة أساسية في التأثير على شخصية الطفل وسلوكه ، وهي:
1ـ المعلّم :
إنّ الطفل يرى المعلّم مثلاً سامياً وقدوة حسنة ، وينظر إليه باهتمام كبير واحترام وفير ، وينزّله مكانة عالية في نفسه ، وهو دائماً يحاكيه ويقتدي به ، وينفعل ويتأثّر بشخصيّته ، فكلمات المعلّم وثقافته وسلوكه ومظهره ومعاملته للطلاّب ، بل وجميع حركاته وسكناته ، ذلك جميعه يترك أثره الفعّال على نفسية الطفل ؛ فتظهر في حياته وتلازمه ، وإنّ شخصية المعلّم تترك بصامتها وطابعها على شخصية الطفل عبر المؤثّرات التالية :
أ ـ الطفل يكتسب من معلّمه عن طريق التقليد والإيحاء الذي يترك أثره في نفسه ، دون أن يشعر الطفل بذلك في الغالب .
ب ـ اكتشاف مواهب الطفل وتنميتها وتوجيهها وترشيدها .
ج ـ مراقبة سلوك الطفل وتصحيحه وتقويمه ، وبذا تتعاظم مسؤولية المربّي ، ويتعاظم دوره التربوي المقدّس في التربية الإسلامية .
2 ـ المنهج الدراسي :
وهو مجموعة من العلوم والمبادئ التربوية والعلمية ، والخطط التي تساعدنا على تنمية مواهب الطفل وصقلها ، وإعداده إعداداً صالحاً للحياة ، ولكي يكون المنهج الدراسي سليماً وتربوياً صالحاً ؛ يمكّنه من تأدية غرضه الشريف ، فينبغي له أن يعالج ثلاثة أمور أساسية مهمّة في عملية التربية المقدّسة ، ويتحمّل مسؤوليّته تجاهها ، وهي :
أ ـ الجانب التربوي :
إنّ العنصر الأساس في وضع المنهج الدراسي في مراحله الأولى خاصّة ، هو العنصر التربوي الهادف ، فالمنهج الدراسي هو المسؤول عن غرس القيم الجليلة والأخلاق النبيلة في ذهن الطفل وفي نفسيّته ، وهو الذي ينبغي أن يعوّده الحياة الاجتماعية السليمة ، والسلوك السامي ؛ كالصدق والصبر والحبّ والتعاون والشجاعة والنظافة والأناقة والإيمان بالله عزّ وجلّ ، وحبّ الوطن والالتزام بالنظام والمعتقدات والأعراف ، وطاعة الوالدين والمعلّم ، و... ، وهذا الجانب التربوي هو المسؤول عن تصحيح أخطاء البيئة الاجتماعية وانحرافاتها ، كالعادات السيّئة والخرافات والتقاليد البالية .
ب ـ الجانب العلمي والثقافي :
وهذا يشمل تدريس الطفل مبادئ العلوم والمعارف النافعة له ولمجتمعه ، سواء كانت الطبيعية منها أو الاجتماعية أو العلمية أو الرياضية أو الأدبية أو اللغوية أو الفنية وغيرها ، التي تؤهلّه لأن يتعلّم في المستقبل علوماً ومعارف أعقد مضموماً وأرقى مستوى .
ج ـ النشاط الصيفي :
وهذا الجانب لا يقلّ خطورة عن الجانبين السابقين ، إن لم نقل أكثر ، ويتمثّل في تشجيع الطفل ، وتنمية مواهبه ، وتوسيع مداركه ، وصقل ملكاته الأدبية والعلمية والفنية والجسمية والعقلية ؛ كالخطابة وكتابة النشرات المدرسية والرسم والنحت والتطريز والخياطة ، وسائر الأعمال الفنية الأخرى ، أو الرياضة والألعاب الكشفية ، والمشاركة في إقامة المخيّمات الطلابية ، والسفرات المدرسية ، بل ومختلف النشاطات اللصيفية الأخرى ، لدفعه إلى الابتكار والاختراع والاكتشاف والإبداع .
فإذا وضع المنهج الدراسي بهذه الطريقة الناجحة ، استطاع أن يستوعب أهداف التربية الصالحة ، ويحقّق أغراضها المنشودة في تنشئة النشء الصالح المفيد .
3ـ المحيط الطلاّبي :
ونعني به الوسط الاجتماعي الذي تتلاقى فيه مختلف النفسيّات والحالات الخلقية ، والأوضاع الاجتماعية من الأعراف والتقاليد ، وأنماط متنوّعة من السلوك والمشاعر التي يحملها الطلاّب معهم إلى المدرسة ، والتي اكتسبوها من بيئاتهم وأسرهم ، وحمّلوها بدورهم إلى زملائهم ، فنرى الأطفال يتبادلون ذلك عن طريق الاحتكاك والملازمة والاكتساب .
وطبيعي أنّ الوسط الطلابي سيكون على هذا الأساس زاخراً بالمتناقضات من أنماط السلوك والمشاعر ـ سيّما لو كان المجتمع غير متجانس ـ فتجد منها المنحرف الضارّ الخطر ومنها المستقيم الخيّر النافع ، لذا كان لزاماً على المدرسة أن تهتمّ بمراقبة السلوك الطلابي ، وخصوصاً من يسلك منهم سلوكاً ضارّاً ، فتعمل على تقويمه وتصحيحه ، ومنع سريانه إلى الطلاّب الآخرين ، وتشجيع السلوك الاجتماعي النافع البنّاء وتنميته ؛ كتنمية روح التعاون والتدريب على أعمال القيادة الجماعية ، والرضا بالانقياد للأوامر ، والالتزام بمقرّرات الجماعة الطلاّبية ، لينشأ فرداً اجتماعياً تعاونياً ، يقرّ بالقيادة التي يقرّرها المجموع ، والتي تحقّق مصلحة الجماعة ، كما ويتدرّب الطالب من خلال ممارسته الحياة في المحيط الطلاّبي على احترام حقوق الآخرين ، ومعرفة حقوقه عليهم من جانب آخر .
4ـ النظام المدرسي ومظهره العام :
لمّا كان الطلبة يشعرون في اليوم الأوّل من انخراطهم في المدرسة أنّ للمدرسة نظاماً خاصّاً ، يختلف عن الوضع الذي ألفوه في البيت ضمن أسرتهم ؛ فإنّهم يشعرون بضرورة الالتزام بهذا النظام والتكيّف له ، فإذا كان نظام المدرسة قائماً على ركائز علمية متقنة ، ومشيّداً على قواعد تربوية صحيحة ؛ فإنّ الطالب سيكتسب طباعاً جيّدة في مراعاة هذا النظام ، والعيش في كنفه .
فمثلاً لو كان الطالب المشاكس الذي يعتدي على زملائه الطلاّب ، والطالب الآخر المعتدى عليه ، كلاهما يشعران بأنّ نظام المدرسة سيتابع هذه المشكلة ، وأنّ هذا الطالب المعتدي سوف ينال عقابه وجزاءه ؛ فإنّ الطرفين سيفهمان حقيقة مهمّة في الحياة ، وهي أنّ القانون والسلطة والهيئة الاجتماعية يردعون المعتدي ، وينزلون به العقاب الذي يستحقّه ، وأنّ المعتدى عليه هو في حماية القانون والسلطة والهيئة الاجتماعية ، ولا ضرورة أن يكلّف نفسه في الردّ الشخصي وإحداث مشاكل يحاسب هو عليها .
إنّ هذه الممارسة المدرسية التربوية تربّي في الطفل احترام القانون واستشعار العدل ومؤازرة الحقّ والإنصاف ، والنظام المدرسي الذي يتابع مشكلة التقصير في أداء الواجب ، والتغيّب عن الدرس والمدرسة ، ويحاول حل هذه المشكلة ؛ فإنّ الطالب في هذه المدرسة سيتعوّد ـ من خلال ذلك ـ الضبط والمواظبة على الدوام والالتزام بالنظام وأداء الواجب والشعور بالمسؤولية ، وهكذا ... .
وكما أنّ للنظام أثره في تكوين شخصية الطفل وتنمية مشاعره وصقل قدراته وتقويم مواقفه وقيمه ؛ فإنّ للحياة العامّة في المدرسة أثرها الفعّال أيضاً ، فجمال المدرسة ونظافتها ، ونظام ونظافة الصف وتنظيم الكراسي والرحلات والسبورة ، وتزيين الصف بأنواع الملصقات الجدارية الملوّنة والهادفة ، هذه تدخل على نفسية الطفل الارتياح والسرور والبهجة ، خاصّة إذا علم أنّ هذه كلّها له ولزملائه ، فيسعى للمحافظة عليها .
وكذلك نظافة دورة المياه والمرافق الصحية في المدرسة ، والتزام كلّ مسؤول بواجبه بدقّة وحرص وإخلاص ، وظهور اللافتات المدرسية والحِكم الأسبوعية ، وتشكيل لجان لمساعدة الطلبة الجدد وإرشادهم لما يطلبون ، وأخرى لمساعدة الطلاّب الفقراء ، وثالثة لتنظيف المدرسة والصفوف والساحة والممرّات ، ورابعة لنشاطات مختلفة يعمل فيها الطلاّب سوية ؛ إنّ كل ذلك وأمثاله يزرع في نفوس الأطفال حبّ التعاون والمشاركة في الأعمال ، وحبّ النظام والترتيب ، وحبّ النظافة ، والالتزام بما يوكل إليهم من نشاطات صفّية أو غير صفّية ، واحترام الآخرين وعدم التدخّل في شؤونهم ، وإلى آخره ممّا يعزّز الثقة بنفس الطفل ويثير فيها التمتّع والارتياح ؛ فتنمّى قدراته وقابليّاته ، فيأخذ بالإبداع والتقدّم فيفيض عطاءً وخيراً له ولأهله ولمدرسته ولمجتمعه .
فعلى هذا توجّب على المدرسة أن تتقن نشاطاتها المختلفة وتنسّق فيما بينها ، لتكون المدرسة بعناصرها المتقدّم ذكرها كافّة متّحدة الهدف ، متّسقة التفكير ، بحيث يجعل منها وحدة عملية نشيطة ، يتعلّم فيها الطفل أسلوب الحياة الصائب ، ويعدّ نفسه لحياة المستقبل كذلك ، ويقرّ الصالح من الممارسات ، ويرفض الضارّ منها وغير المفيد ، فتكون المدرسة بذلك قد أمدّت المجتمع العام بوحدات إنسانية أساسية ، تدخل في بنائه وتركيبته الجديدة ، وتعمل على إحداث تغيير اجتماعي فيه ، وفق خطّة المدرسة الإسلامية الملتزمة .
د ـ الدولة :
بعد أن تطوّرت بنية الدولة ومهمامّها ، وتعقّدت الحياة البشرية بمختلف مجالاتها ؛ صارت علاقة الإنسان بالدولة علاقة حيوية ، فما من مرفأ من مرافئ الحياة إلاّ وللدولة أثر أو علاقة أو مشاركة فيه ، مباشرة أو غير مباشرة .
ويظهر أثر الدولة بشكل أكثر وضوحاً في التربية والتعليم والثقافة العامّة ، فالدولة اليوم هي التي تتولّى مسؤولية التربية والتعليم والثقافة ، وتخطّط لها مركزيّاً ، وتنهض بإدارتها وقيادتها .
أي أنّ الدولة تتبنّى مسألة إقامة البناء الإنساني ، وتصحيح البنية الشخصية وتقويمها ، وتنمية الفكر ، وكذلك طريقة إعداد الإنسان للحياة ، وعليها مسؤولية إعداد المنهج المدرسي ، ورسم السياسة التربوية العامّة ، وتوجيه الثقافة عن طريق الإذاعة والتلفزيون ووسائل النشر ، وأساليب الدعاية التي تؤثّر بواسطتها في إعداد الإنسان فكريّاً ونفسيّاً وسلوكيّاً ، وبتلك الوسائل والإمكانات تستطيع الدولة التأثير على هوية الإنسان التربوية ، وتحديد معالم شخصيّته .
وبما أنّ الدولة الإسلامية هي دولة عقائدية فكرية ، لها خطّ فكري متميّز المعالم ، وفلسفة حياتية مستقلّة ؛ لذا فهي مسؤولة عن توجيه التربية ، والتخطيط لكلّ عناصرها وأجهزتها المدرسية والإعلامية ، لتسير في الخطّ الإسلامي الملتزم ، فتمهّد الطريق للطفل في أن يشقّ طريقه إلى الحياة المستقبلية الكريمة ، وتساعد الشباب على تحمّل مسؤوليّاتهم المقدّسة ، ليكون لهم الدور الفعّال في ترسيخ أسس الدولة الإسلامية واستمرارها وبقائها ، والمشاركة في أخذ يدها نحو الخير والصلاح والعزّة والكرامة ، وليأخذ كل فرد في المجتمع الإسلامي دوره البنّاء المعدّ له والمؤهّل هو له ، فيكون عضواً نافعاً وفرداً صالحاً في هذا المجتمع ، يهدي إلى الخير ، ويكون رحمة لوالديه ، فيترحّم الناس عليهما لما يجدون في ولدهما هذا البرّ والإحسان والخير والصلاح والنفع والفائدة .
قال هادي البشرية والأنام ، ومنقذها من العبودية والظلام ، ومخلّصها من الذنوب والآثام ، رسول الله محمّد ( صلى الله عليه وآله ) : ( ميراث الله من عبده المؤمن الولد الصالح يستغفر له ) .
مسك الختام :
إنّنا حين نتطرّق لهذه العوامل بالشرح والتبسيط ؛ إنّما نريد بذلك إرساء حجر الأساس لما ألزَمَناه الإمام علي ( عليه السلام ) في منهاجه التربوي ، فنوفّر الأرضية الصالحة لنشأة الجيل على مبادئه ومعتقداته وآماله ، معتمدين في ذلك على الهدف الذي رسمه لنا ، لتحديد معالم التربية وأطرها الفكرية والمسلكية والعاطفية ، فذلك هو نصّ ما جاء بخطابه لولده الحسن ( عليه السلام ) حيث قال :
( فإنّي أوصيك بتقوى الله أي بُنيّ ، ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره ، والاعتصام بحبله ، وأيّ سبب أوثق من سبب بينك وبين الله ، إنْ أنت أخذت به ) ؟!
سدّدنا الله عزّ وجلّ جميعاً في تربية أولادنا التربية الإسلامية التي ترضيه سبحانه وتعالى ، وترضي رسوله وخلفاءه الميامين الأئمة الإثني عشر الطيبين الطاهرين المعصومين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ، وترضي الصلحاء من هذه الأمّة الطيّبة ، عليهم رضوان من الله ربّ العالمين ، والحمد لله حمد الحامدين ، ونستعينه إنّه خير معين .
:è\": :&é: